الأحد، 21 أغسطس 2011

سفير العشق


في رحلتي الولائية الأخيرة لزيارة مشهد الإمام الرضا -عليه السلام- بضع مشاهد خالدة أحببت أن أسطرها لكم بعد فراق وجفاء لمدونتي (وقفات) ارجو ان تكون البداية لانطلاقة جديدة للتدوين .
فالتدوين هذه الأيام أصبح لا وقت له لظهور مختلف وسائل الاتصال الاجتماعي الحديثة والتي أصبح لها جمهور كبير ومتابعه لحظية بخلاف المدونات التي بدأت تندرس وتندثر .إلا أن التدوين في مدونة له رونق خاص وريحة عجيبة .

قبل أن أبدأ بحكاية وقفاتي .. اسميت الموضوع بـ ( سفير العشق ) وللتسمية سر ، فالمولى الرضا - عليه السلام - يأسر الأرواح في رحلة لا تجد فيها سوى ( الحب ) ومنه ستشق طريقك إلى كربلاء ، حيث معراج ( الحب )

قبل موعد الرحلة كان يومي حافلاً بمزاحمة العلماء ، ففي الجلوس معهم تستنشق روائحاً عبقة واشارات بنّاءة نحتاجها لإكمال مسيرتنا الاجتماعية والدينية على حدّ سواء ، ففي هذه الليلة تشرّبت قوة عجيبة ودفعة فريدة من نوعها نحو تحقيق مشروع جديد سيغير الكثير من ممارستي العلمية في الكويت ، - وقد تحقق أغلبه ولله الحمد -

الغريب أن الأحوال تتغير بين الفينة والأخرى ، فها أنا أتحير في المطار أفكر في الضمانات والعهود التي قطعتها في الكثير من أعمالي ، وطول السفر وتوقف السعي وراء المشروع ، والقلب لا يحتمل وداع الأحبة.
في سكتة غريبة ألمت بي وشرود ذهني قطعتها نسمة هواء عليلة وسط حرارة الجو المعتادة في الصيف وكأنها ليست من هواء هذه المنطقة أخذتني إلى حيث جوار مولاي الرضا ، فاشتدّت عزيمتي وقويت على مفارقة الأحبة ونسيان أمرهم ، توجهتُ إليه فسبقتني روحي للنظر إلى مناراته ولثم ضريحه .

فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ }

فوقفت متسمراً منشداً متمثلاً بأبيات البهائي بعد أن بان المشهد الأقدس الرضوي :
هذه قبَّةُ مولاي بَدَت كالقَبسِ .. فاخلعِ النَّعل فقد جُزتَ بوادي القُدسِ

حينها سمِعتْ روحي صوتي وأيقنتْ وصول جسدي سالماً محملاً بالعبق الرضوي الفواح فسكنت فيه فاسترحت وخلدّت إلى النوم في حينها.


[ دعاء كميل ] :-
كل من آنس في وادي مشهد الرضا ذاق حلاوة المناجاة تحت سمائها ، وعرف معاني التوبة خصوصاً في ليالي الجمعة حيث تستمع إلى أجمل مقطوعه من زبور مولانا علي بن أبي طالب عليه السلام من الراوي الثقه كميل بن زياد رضوان الله عليه ، هذا الجو المفعم بالروحانية ينتاب الجميع في أوّل كلمة من الدعاء ( اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء ) فـلطافة الجو والنسيم العليل ومنظر مناراته وقبته الواسعه تفتح لك آفاق هذه الكلمة إذ أن رحمة الله وسعتك حتى أتتك إلى هذا الوادي المقدّس .
دعاء كميل عبارة عن سيرة حياتنا الذاتية بكل تفاصيلها ، نقرأها ونعترف بتقصيرنا وذنوبنا ، حتى يشملنا العفو الإلهي ببركة حضرة مولانا الرضا عليه السلام . وبعد الانتهاء من الدعاء لا أظن أن عبداً صادقاً في توجهه يأتيه شك في أن ذنوبه محيت ولو كانت مثل زبد البحر .

[ أنيس النفوس يؤنس الصغار ] :-
أنيس النفوس لقبُ لم يطلق على مولانا الرضا عليه السلام اعتباطاً - حاشا لله - ، مصداقها لا يمكن أن يعبّر عنها بحروف أي كاتب ، خير مصداق التجربة ، لكني أنقل لكم ما رأته عيني علّها تعطي صورةً مصغرة عن الأنس .
طبيعة الإنسان يتملل حين لا عمل له إذا مر وقتاً طويلاً على ركوده وجلوسه ، إلا أن هذه الطبيعة تختلف في صحن الإمام الرضا عليه السلام ، بل إن النظام الطبيعي كله يتغير ، فلن تجد معنى الكلل والملل في الجلوس والنظر إلى القبّة فقط ، هذا ما يشعر به كل الزوار ، إلا أنك ترى ذلك واضحاً جلياً في وجوه الصغار ، فتمايلهم وركضهم في الباحة وضحكهم العالي ومشاكستهم عند ( النافورة ) والبِركة .. كلها تدلّك على روح خفية استحوذت على نفوسهم فآنستهم .. نعم ! رأيت بعيني آباً يحمل طفلته الصغيره ذات الـ٦ أشهر على يديه ومن خلفه يتعلق أبنيه بذيل ثيابه وهو يركض بخفّة وهو يردد أناشيد يتخللها ضحك الصغار. ما أجمله من منظر وأنت ترى شعر أطفاله يتطاير من نسائم جنّة الرضا عليه السلام .
حقاً يا سيدي إنك تفرج عن المهموم همّه وعن المكروب كربه ، وتفرح الصغير قبل الكبير .
وإن سقطت عيناك على طفل يبكي فاعلم علم اليقين أن والداه منعوه من أن يأنس فيلجأ للبكاء .

[ الشيخ البهائي رض ] :-
كانت زياراتي للمولى الرضا عليه السلام تمرّ من رواق الإمام الخميني رضوان الله عليه ، فأمر من بعده على رواق الشيخ البهائي فأسلم عليه واقرأ الفاتحة عند قبره ، فلا أنسَ  دعوته لي بالعشق لسيدي ومولاي الحجة عجل الله فرجه في رباعيته المشهورة التي منها : 
يا أخلائي بحزوى والعقيق .. ما يطيق الهجر قلبي ما يطيق
هل لمشتاقِ إليكم من طريق .. أم سددتم عنه أبواب الوصال؟

أغرقني بالعشق .. وألهمني الهيام فرضوان الله عليه هذا العالم الجليل جمع العلوم النقليه والعقليه ، فبرع فيها كلها .. ولم يكتفِ بذلك وما زالت تلك القصة والقضية حاضرة في بالي كلما دخلت على الإمام الرضا من الباب المكتوب على أقواسه ( أدخلوها بسلامِ آمنين ) ، تلك القضية حينما همّ بإعمار الحرم الرضوي المبارك ، وانتهى من البوابة وقال لخادمه : إني في سفرِ لمدة ثلاث أيام فلا تعلّق الآية حتى آتِ .
فما مضت الليلة الأولى حتى شاهد الخادم الإمام الرضا في منامه يأمره بتعليق الآية ، فجلس متردداً حتى نام وفي الليلة الثانية يرى نفس الرؤية ،وهو على حاله من التردد ، حتى رآى المولى الرضا في الثالثه وهو يأمره بشدّه ويوبخه على تأخره . فجلس وعزم على تعليقها ،فلما قدم الشيخ البهائي وجدها معلقه فزجر خادمه حتى بيّن الخادم الرؤى الثلاث ، فسقط باكياً فتعجب الخادم مما يرى من تغير حالة الشيخ فاستفسر عن ذلك ، فأجاب الشيخ : إني كنت في عزلة اعتكف كي أضع طلسماً جديداً يمنع أصحاب الذنوب الكبيرة من الدخول على الإمام الرضا عليه السلام !
كم أنت رؤوف ياسيدي .

[ أشياء عجيبة ] :-
لكلَّ منّا علامات يتعجب منها ، فتعجبي يزداد يوماً عن يوم حينما أرى في كل مرة في الحرم شبيهاً بأحد معارفي ناسياً له فاتذكره وأدعو له ، هذه الحالة لا اتفرد فيها ، في كل الزيارات للأئمة صلوات الله عليه نرى ذلك .. فحدّث عن ذلك ولا حرج .
وأرأيت شيخاً بعمامته البيضاء داخل الحضرة واضعاً خدّه على التربة يتضرّع في صلاة الاستغاثه وهو يقول : يافاطمة أغيثيني . فأثار هذا المنظر وجداني ووقع في قلبي ما وقع .

كان أحد الأصدقاء يوصيني أن أطلب من الإمام الرضا عليه السلام التوفيق لزيارة الإمام الحسين عليه السلام فهو سفير العشق .
وهئنذا أتهيأ للسفر إلى كربلاء حيث معراج دم القربان .. ببركة الدعاء عند الرضا عليه السلام .
اللهم تمم عليّ ما هممت إليه وبارك في زيارتي .. ولا تحرمنا من زيارتهم في عامنا هذا وفي كل عام آمين يا رب العالمين

الثلاثاء، 23 نوفمبر 2010

هنيئاَ للموالين




في كتاب كامل الزيارات ، قال : أخبرنا أبو على احمد بن محمد بن عمار الكوفي ، قال : حدثنا أبى ، قال : حدثنا على بن الحسن بن على بن فضال ، عن محمد بن عبد الله زرارة ، عن احمد بن محمد بن أبى نصر ، قال:


 كنا عند الرضا عليه السلام والمجلس غاص بأهله فتذاكوا يوم الغدير ، فأنكره بعض الناس ، فقال الرضا عليه السلام : حدثني أبى ، عن أبيه عليهما السلام قال : ان يوم الغدير في السماء أشهر منه في الأرض ، أن لله عز وجل في الفردوس الأعلى قصرا ، لبنة من ذهب ولبنة من فضة ، فيه مائة ألف قبة من ياقوته حمراء ومائة ألف خيمة من ياقوت أخضر ، ترابه المسك والعنبر فيه أربعة انهار :  نهر من خمر ونهر من ماء ونهر من لبن ونهر من عسل ، حواليه أشجار جميع الفواكه ، عليه طيور أبدانها من لؤلؤ وأجنحتها من ياقوت تصوت بألوان الأصوات . فإذا كان يوم الغدير ورد إلى ذلك القصر أهل السماوات يسبحون الله ويقدسونه ويهللونه ، فتطاير تلك الطيور فتقع في ذلك الماء وتتمرغ على ذلك المسلك والعنبر ، فإذا اجتمعت الملائكة طارت تلك الطيور فتنفض ذلك ، وانهم في ذلك اليوم ليتهادون نثار فاطمة عليها السلام فإذا كان آخر اليوم نودوا : انصرفوا إلى مراتبكم فقد أمنتم من الخطأ والزلل إلى قابل في مثل هذا اليوم تكرمة لمحمد وعلى عليه السلام . ثم التفت فقال لي : يا ابن أبى نصر أين ماكنت فاحضر يوم الغدير عند أمير المؤمنين عليه السلام ، فان الله تبارك وتعالى يغفر لكل مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة ذنوب ستين سنة ويعتق من النار ضعف ما اعتق من شهر رمضان وليلة القدر وليلة الفطر ولدرهم فيه بألف درهم لاخوانك العارفين وأفضل على اخوانك في هذا اليوم وسر فيه كل مؤمن ومؤمنة


ثم قال : يا أهل الكوفة لقد أعطيتم خيرا كثيرا وانكم لمن امتحن الله قلبه للايمان ، مستذلون مقهورون ممتحنون يصب البلاء عليهم صبا ، ثم يكشفه كاشف الكرب العظيم ، والله لو عرف الناس فضل هذا اليوم بحقيقته لصافحتهم الملائكة في كل يوم عشر مرات 

الجمعة، 19 نوفمبر 2010

عشق الوصل



تخيّل لو أن حبيبك غاب عنك وانقطعت سُبلُ وصاله واتصاله ومَكُثَ في غيبته عقدٌ من الزمن ، تتلهف لسماع شيئا من أخباره فما تجد ، ويظل أملك في لقائه قائم . فـحاولت دوماً ان تلقى وسيلة تربطك به حتى لو كانت مرأى حلم عابر . يخطف في ذاكرتك صوره كل حين ، ومن فرط شوقك اليه تداعب تلك الذكريات علها تؤنسك هنيئات بذكرى الحبيب . وتنقضي أيامك تسامر حبيبك عن بعد وانت عنه بعيد . وتتحسس بوجوده معك فتتمتع بجواره . وضع سردا لحكاية العشق وما يدور من حديث معه .



انقضت ايامك هكذا متلهفاً الى نظرة تنقلك الى عالم السعادة ترسم في وجهك ابتسامة عريضة تخطها دموع الشوق واللهفه . حتى يأتيك نبؤٌ عنه . وهو في طريقه الى محل اقامتك .
فتستعد لاستقباله من أيام وتعد العدة لها . وتسأل كثيراً عن وقت وصوله ولا يحرجك كثرة السؤال عنه وعن اوصافه وما يريد أن يفعله في اثناء وصوله وما هيأته ومن معه ... وهلمّ جراً بهذه الاسئلة التي ستع فها حال وصوله .




هذا حال العشاق لا ينامون الليالي تفكراً في المحبوب ، بل قد يسقم جسمه من كثرة بكاء فقده . فكيف بمن اراد أن يكحل عينيه بنظرة إلى مولاه حجة الوجود وإمامه . والجمال كل الجمال في عينيه وحاجباه . والليل والنهار يجتمعان في سواد شعره وبياض غرته الكريمة .




إن أصل الانتظار أن يتبدل هذا الانتظار الى ايجاد طريقة للاتصال بالمعشوق . ومعرفة آخر أخباره وتقصي آثاره وهذا ما دلّ عليه الحديث الشريف : { أفضل أعمال أمتي ، انتظار الفرج } .
فكيف بالعاشف الذي يريد أن يسمع أي شيء عن معشوقه أن يُمنع ويقال هذا لا يفيد ولا يضر او من ( الترف الفكري ) .
فكيف اذن نحقق معادلة الانتظار واحتراق الشوق في القلب لهفةً لرؤيته . واتمثل بقول الشيخ البهائي في عشقه للمنتظر المهدي حين قال :
يا أخلائي بحزوى والعقيق ... مايطيق الهجر قلبيما يطيق
هل لمشتاق إليكم من طريق ؟ ... أم سددتم عنه أبواب الوصال؟!




لاتلوموني على فرط الضجر ... ليس قلبي من حديد أو حجر
فات مطلوبي ومحبوبي هجر ... والقلب في كل آن في اشتعال




حبانا الله واياكم باكتحال الاعين بنظرة شريفة منه . ورزقنا الشهادة بين يديه فما على العاشق من حرج إن مات شوقا اليه .



____
نشرة في مجلة شباب الرسول الأعظم ( العدد السابع ) .. من هنا

الاثنين، 11 أكتوبر 2010

الــروح (7)




انتهى بنا البحث إلى هذه النقطة ، بعد أن ثبت من خلال القرآن الكريم نفسه أن له نوحين من الوجود اصطلحنا عليه
·        * الوجود العالي : الذي نزل منه القرآن وهو الوجود الذي في أم الكتاب والوجود الذي في الكتاب المكنون والوجود الذي في اللوح المحفوظ
·        * الوجود الداني : وهو الذي عبّر عنه القرآن في سورة الزخرف ( إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون )

          وبينّا بعض الفوارق الموجودة بين هذين النحوين من الوجود ، ولكن هناك اشارة في القرآن لفارق آخر وخصوصية أخرى للوجود العالي ، حيث عبّر عن ذلك بقوله : ( وإنه في أم الكتاب لدينا )  وفي موضع آخر بنحو عام قال : ( وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ) .

إذن هناك لفظان لفظ ( لدينا ) و ( عندنا ) !

حينما نرجع إلى القرآن الكريم ، نجد بأن الله يميز بشكل واضح بين ما عندنا وما عند الله ، فمثلاً
قوله : ( ما عندكم ينفذ وما عند الله باق ) .

والقرآن أشار إلى الوجود العالي بكلمة لدينا  ( وإنه في أم الكتاب لدينا ) وعندنا ( وإن من شيء إلا عندنا خزائنه )  إذن فهو لدى الله ، وما عند الله باق لا يتبدل ولا يتغير وهذه حقيقة قرآنيه .

من هنا نصل إلى الخصوصية الثالثه للفرق بين الوجودين العالي والداني .
أن ذلك الوجود العالي ، فوق عالمنا المشهود والمادة والمحسوسات ، وهو مرتبط بعالم الغيب والملكوت والباطن ، أما الوجود الداني فهو مرتبط بعالم الشهادة والملك والظاهر .

لننتقل إلى مبحث آخر ، وهو مبحث الـ (حقيقة الوجود العالي )


فهل الوجود العالي ، له نشأة واحده أم متعدد ؟!

في سورة الحجر قول الله تعالى : ( وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ) .
وفي صريح الآية المباركة عبّر عنه خزائن ،
والقرآن شيء من الأشياء ، فهذا يكشف أن له خزائن عند الله ، يعني اثنان فما فوق
وكلها مرتبط بعالم الغيب .
وهنا أقف وأقول ،
حينما نقول أن وجود النبي صلى الله عليه وآله ووجود الأئمة ، ونقول أنهم يعرفون القرآن بتمامه ، ليس المراد هو ما يرتبط بالألفاظ والمفاهيم ، وإنما المراد علمهم ، بجميع خزائن القرآن في الوجود الملكوتي .


السبت، 4 سبتمبر 2010

الــروح (6)



ذكرت في الحلقة السابقة في آخر نقطة حينما ذكرنا آية في سورة الزخرف ، بأن للقرآن نحوين من الوجود .
الوجود الأول الذي عبر عنه القرآن (  إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) .
والوجود الثاني الذي عبر عنه القرآن ( وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) . لكن نجد أن هذه الآية وصفت هذا النحو الثاني من الوجود بعدة تعبيرات ، وهذا من خصائص القرآن الكريم ، أولا وصفته بـ(لَدَيْنَا) وهذا أمر مهم يجب الوقوف عليه ، ثم وصفت الآية مرتبة القرآن بالـ(العلو) و (الحكمة).

في الواقع ، القرآن الكريم أشار إلى تلك الحقيقة بأمر واضح ، في سورة الواقعه (  إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ،فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ، لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) . لو تلاحظون أن في الآية الاولى وصف بـ (أُمِّ الْكِتَابِ) وفي سورة الواقعه بـ (كِتَابٍ مَكْنُونٍ) .، ونحاول أن نقف على تلك الحقيقه ..،

الأمر الثاني المستفاد من هاتين الآيتين ، أن القرآن لكي تُعقل كما أشار (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ،والمراد من العقل يعني الإدراك والفهم .، لا بد أن يكون بنحو علم الحصولي ، لأن العلم كما تعرفون من كتب ( المنطق ) وفي الأبحاث الفلسفيه وفي نظرية ( المعرفة ) ، أن العلم إما أن يكون حضورياً - وهو إدراك وجود الشيء - ، وإما أن يكون حصولياً - وهو إدراك مفهوم الشيء أو صورة الشيء في الذهن - .
لكي يدرك القرآن إدراكاً حصولياً ، لا طريق لنا إلا أن يكسو وأن يلبس لباس الألفاظ . وبعبارة واضحه : القرآن الكريم لولم يلبس لباس العربي المبين ، لما أمكن إدراكه ولما أمكن فهمه ،
لذا لا يوجد هناك طريق عقلي - الطريق الذي يقوم على اساس الفهم والإدراك والمفاهيم والعلم الحصولي - للقرآن إذا كان في مرتبته الوجودية الأولى التي ذكرتها سورة الزخرف (أُمِّ الْكِتَابِقبل نزوله إلى عالم الدنيا التي ذكرتها بـ(بلسان عربي مبين)
ويمكن أن نستفيد أن أصل القرآن بحسب مرتبته في (أُمِّ الْكِتَابِ)هوحقيقة القرآن وأصله ، أما وجوده عندنا الذي هو (بلسان عربي مبين) هو فرع من ذلك الأصل الذي نزل إلينا كما في قوله (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) - (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ) - ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) .

بعبارة مختصره أخرى : أن هذا القرآن ، كان في مرتبة ( أم الكتاب ) ومرتبة ( الكتاب المكنون ) والله أنزله من ذلك الموضع إلى موضع ( بلسان عربي مبين ) ، والدليل نفس الآية ( وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ  )

وأتضح أن الوجود الأول هو الأصل وهو العالي ، والوجود الثاني هو الفرع وهو الداني والذي نستطيع أن نتعامل معه ونفهمه .
ووردت في أحاديث متعدده  وأدعيه كثيره هذه العبارة : " أن الله عالٍ في دنوه ، ودانٍ في علوه " ، فماذا تعني ؟
مع أن الله سبحانه وتعالى عال لا تدركه الأبصار وليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، مع ذلك فهو أقرب إلينا من حبل الوريد ويحول بين المرء وقلبه ، إذا قلنا أن الله عالٍ قد يتبادر إلى الذهن أنه ليس بدانٍ ، كلا ، فمع انه دانٍ هو عال ، ومع أنه عالٍ هو دان ، وهذه ليست جديده في معارف التوحيد ، تسمع ذلك في خطبة أمير الموحدين علي بن أبي طالب عليه السلام : كل أول سواه ليس بآخر ، وكل آخر سواه ليس بأول ، وكل ظاهر سواه ليس بباطن ، وكل باطن سواه ليس بظاهر إلا هو ، فهو الأول والآخر والظاهر والباطن فهو الجامع بين الأضداد فهو العالي في دنوه ، والداني في علوه .

ونبقى أن نعرف ما هي العلاقة بين الأصل والفرع ، وسنقف إذا وفقنا الله لها في الحلقة القادمة ..،

الثلاثاء، 31 أغسطس 2010

الــروح (5)



عندما نريد أن نقف على معنى التنزيل ..،
في البداية ، حينما نأتي إلى هذه المفردة نجد أن هناك أبحاث متعدده ، ولكن أولاً يجب أن نعرف مرجع الضمير ( الهاء ) في قوله تعالى ( أنزلناه ) ، في الواقع لكي نعرف مرجع الضمير ، علينا أن نرجع إلى آيات أخرى ، لأن القرآن الكريم من أوله إلى آخره كلام لمتكلم واحد ، فإذا أردنا أن نفهم أجزاء كلام لمتكلم واحد ، فيجب أن نربط العبارات بعضها ببعض . كما جاء التأكيد ذلك في الأحاديث بأن القرآن يفسر بعضه بعضاً

لنلاحظ هذه الآية في سورة البقرة : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} .. هنا أقف لمعنى آخر ، بأن شهر رمضان له خصوصيه وهو شهر نزول القرآن الكريم فيه . ، ولكن يبقى السؤال هو ، هل نزل في جميع ليالي شهر رمضان أم في ليله واحده ، لذا فلنرجع إلى سورة الدخان في هذه الآية يتضح جواب سؤالنا حيث قوله تعالى : { حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) } ، إذن فالقرآن الكريم نزل في ليلة واحده (ليلة مباركة) ، وحين نجمع الآيتين مع الآية الاولى من سورة القدر ، تتجلى لنا ماهية الليلة ، ويتضح بعد ذلك أن القرآن الكريم نازل في شهر رمضان في ليلة منه وهذه الليلة هي ليلة القدر .

النقطة الثانية هي ورود العبارة بالتنزيل ، وهذا يعطينا معنى بأن القرآن الكريم كان في موضع عالٍ ومن ذلك الموضع أُنزل إلينا ، ولو نرجع إلى سورة الحجر وقول الله تعالى : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ } . فتتضح لنا حقيقه من أهم الحقائق القرآنيه ، وهي انه ما من شيء في هذا العالم ، إلا وله خزائن عند الله ، ومن هذه الخزائن يُنزل، ومن الناحيه اللغوية التنزيل يستلزم أن يكون الأمر في موضع عالٍ ، والقرآن الكريم أشار إلى الكثير من هذه الأمور في آيات مختلفه ، أشار إلى القرآن والحديد والأنعام .

وعندما نأتي إلى أوائل سورة الزخرف نجد قول الله تعالى {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)} ومن هذه الآية يتضح صراحة بأنه عليّ أي من العلو .،

وهنا نقف وقفة أساسية عند هذه المعرفه والحقيقه التي أشارت إليها هذه الآيات من سورة الزخرف ،
أولاً عبرت أن القرآن له وجود بلسان عربي ، وله وجود في أم الكتاب ، وأنه في هذا العالم يفهم بنحو وفي ذاك العالم يفهم بنحو ، وهذا ما سنتطرق إليه في الحلقة القادمة .

الأحد، 29 أغسطس 2010

الــروح (4)


نكمل ما شرعنا بالبحث فيه .. ،

قال الله تعالى : { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥) }


لنقف على هذه السورة الكريمة سورة القدر .. لنبدأ شرح ما يمكننا ان نشرحه وما يستوعبه وعاؤنا من آيات الله عز وجل ...، 
لذا ستكون السلسلة من الآن في سورة القدر وشرحها بالتفصيل ..،

بدايةً
هذه السورة تعد من السور الأساسية التي تحمل معاني عالية ومضامين مهمة في المعارف القرآنيه ، نحن عندما نراجع الآيات القرآنيه نجد أن اهل البيت عليهم السلام ، اكدوا على سور وآيات قرآنيه .. فمثلاً نجد أن أهل البيت عليهم السلام يركزون على آية الكرسي وورد منها معارف ومضامين وتأكيدات ، وكذلك ( شهد الله أنه لا إله إلا هو... ) وسورة يس .. وغيرها . فلذا ورد في الكافي في شأن سورة القدر وتفسيرها ، ورد عن الإمام الباقر عليه السلام انه قال : " فوالله إنها لحجة الله تبارك وتعالى ، على الخلق بعد رسول الله -ص - وإنها لسيدة دينكم ، وإنها لغاية علمنا " (1). ومن هنا تأتي الاهميه لأنه إمامنا الباقر جعلها الحجة علينا بعد رسول الرحمة ، وإن دل هذا على شيء ، فإنه يدل على أهميتها وغناها بالتعاليم والمعارف الإلهيه .
وفي رواية في نفس المصدر السابق ، عن مولانا الباقر عليه السلام : " فضل إيمان المؤمن بحمله إنا أنزلناه وبتفسيرها على من ليس مثله بالإيمان بها ، كفضل الإنسان على البهائم " (2) . هنا يتضح ان لهذه السورة وفهم تفسيرها حداً يميز الإنسان عن باقي الناس .. ومفارقته لهم بالعقل والتعقل كتشبيه الإمام لهذا الوضع .. بأنه كالإنسان على باقي البهائم .

لذا فهي مهمة لأن نشرح هذه السورة ..،
وأود الإشارة أيضا .. ان في بحثي في سورة القدر .، قد ارجع واكرر بعض ما بحثنا فيه من الأمور من اجل اتمام تفسير هذه السورة بالقدر الذي نتحمله ، وعلى الله التوفيق .
لا بأس أن نقف عند كل مفردة من مفراد هذه السورة المباركة ..،
 لذا سأبدأ بالمفردة (إنا) .. والبحث سيكون لماذا أتت هذه المفرده بـ(إنّا) وليس بـ(إنّي)..!
نجد أن القرآن الكريم في مواضع كثيره يعبّر بـ( إنّـــا ) كقوله تعالى في هذه السورة ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) وقوله ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) وقوله : ( إنا أنزلناهُ في ليلةٍ مباركةٍ إنا كنا مُنذٍرين ) ... وآيات عديده .. حينما يريد الله ان يعبر حقيقة من حقائق هذا العالم يعبر بـ(إنا)
ولكن نجد تارة في القرآن الكريم حينما يريد الله أن يشير إلى فعل من أفعاله  كما اشارت هذه الآية (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً )
فــ لماذا القرآن الكريم يشير إلى فعل من أفعاله تارة يعبر بـ(إنا) ، وتارة بـ(إني)
طبعاً يوجد هناك نقاط أدبية ونحويه ، تفرق بين كلمة (إنا) وكلمة (إني)
ولكن أود الإشارة في البحث بالفرق بين المضمون أو المحتوى . ، وهذا لا يلغي الفرق الأدبي أو النحوي ، بل بالإضافة إلى الفروق الأدبية والنحوية ، هناك فروق مضمونية ومحتوائيه يجدر الإشارة بها والتمعن فيها فالقرآن كتاب معجز .

هناك ايضاحات من بعض أعلامنا في الفرق المضموني ، ولا أدعي أنها تنطبق 100% ، لكنها في الأعم يعتد بها .
افعال الله تعالى يمكن تقسيمها إلى قسمين :-
1. أفعال تصدر من الله تعالى بلا واسطه .
2. أفعال تصدر من الله تعالى بواسطة . 
كما ذكرنا ذلك في حلقة سابقة ، باسلوب آخر .،
على سبيل المثال : قبض الارواح او ( الموت )
تجدون الله يقول في آية قرآنية (  اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا 
وفي آية أخرى : ( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) . 
انظروا إلى القرآن الكريم مع أنه ينسب فعل التوفي إلى الله سبحانه وتعالى ، ولكن مع ذلك نجد أنه وكل الله ملك الموت للقيام بهذه الوظيفة .
وايضا في الإحياء والرزق والإعطاء والمنع وهكذا أيضا ليس فقط في قبض الأرواح  ، حياتنا جرت على الأسباب كما ذكرت الرواية في أصول الكافي ذلك بالصريح عن الصادق عليه السلام انه قال : أبا الله أن يجري الأشياء إلا بأسباب ، وجعل لكل شيء سبباَ .... "(3)
صحيح ان الله هو الرافع للعطش ، لكن عليك بأخذ الأسباب وهو ان تشرب الماء لترفع عن نفسك العطش ، وهكذا في باقي أمثلة حياتنا ،
إذن فالله تعالى له أفعال أعطى الإذن التكويني لا التشريعي وهو حق التصرف بنظام الكون ( بإذنه سبحانه ) .
فـإذا كان الأمر كذلك ، فالله يأتي ويخبر بذلك بكلمة ( إنّا ) .. يعني أن الفعل لا يصدر عنه مباشرة وإنما يصدر عنه بتوسط الأسباب .. 

على هذا الأساس .. نأتي إلى سورة القدر في هذه الآية الكريمة ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) ، يعني أن الفعل فعل الله بواسطة الملائكة ،
وبهذا يتضح لنا لماذا أنّ التعبير جاء بـ(إنّا) وليس بـ(إني)

وسنكمل الحديث عن مفردة ( أنزلناه ) في الحلقة القادمة ... فترقبوها
__________________
(1) : الكافي الجزء الأول باب في شأن إنا أنزلناه في ليلة القدر صفحة 247
(2) : نفس المصدر السابق .
(3) : الكافي الجزء الأول باب معرفة الإمام والرد عليه الحديث السابع

الثلاثاء، 17 أغسطس 2010

الــروح (3)




نستأنف ما بدأنا به بحثنا ....

قال الله تعالى : { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥) }

في هذه الحلقة .. نحاول أن نقف على بعض المضامين الأصليه لهذه السورة المباركة .. ولكنه حتى ترتبط هذه الأبحاث بعضها ببعض .. 
نذكركم .. ان القرآن الكريم حينما يعبر عن الروح في آيات متعدده { تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة } أو قوله تعالى : {يوم يقوم الروح والملائكة صفاً} أو هذه الآية المباركة في سورة القدر { تنزل الملائكة والروح فيها }
قلنا بأن الروح في القرآن ملك الحياة كما أنه يوجد عندنا ملك الموت قابض الأرواح .. كذلك يوجد عندنا ملك الحياة معطي الأرواح وبينّا أن القرآن الكريم أعطى وظائف لهذا الروح ، كما تعلمون بأن الملائكة لها وظائف لتدبير هذا الكون ، ثم انتهينا بأن هذا الروح مع هذه العظمة موجود مع النبي الخاتم - ص - ومن بعده لأئمة أهل البيت عليهم السلام .

هناك رواية صحيحة السند ذكرناها عن الإمام الباقر عليه السلام حينما سئل عن الروح فقال : .. وهو فينا أهل البيت 
اي من هنا يتضح بأن الروح في القرآن الكريم ليس فقط مع النبي وأهل البيت بل هو جزءٌ منهم .

أي أن مبدأ الحياة موجود في النبي الأكرم وأهل البيت عليهم السلام بل هو جزء منهم .. إذن أي شيء وأي حي وأي تأييد مبدأؤه يكون النبي وأهل البيت عليهم السلام . وهنا تعرف مقام النبي من هذا الرواية 


الخبر رواه جابر بن عبد الله قال : قلت لرسول الله صلى الله عليه وآله : أول شئ خلق الله تعالى ما هو ؟ فقال : نور نبيك يا جابر خلقه الله ثم خلق منه كل خير ثم أقامه بين يديه في مقام القرب ما شاء الله ثم جعله أقساماً ، فخلق العرش من قسمٍ والكرسي من قسم ، وحملة العرش وخزنة الكرسي من قسم ، وأقام القسم الرابع في مقام الحب ما شاء الله ، ثم جعله أقساما فخلق القلم من قسم ، واللوح من قسم والجنة من قسم . وأقام القسم الرابع في مقام الخوف ما شاء الله ثم جعله أجراء فخلق الملائكة من جزء والشمس من جزء والقمر والكواكب من جزء ، وأقام القسم الرابع في مقام الرجاء ما شاء الله ، ثم جعله أجزاء فخلق العقل من جزء والعلم والحلم من جزء والعصمة والتوفيق من جزء ، وأقام القسم الرابع في مقام الحياء ما شاء الله ، ثم نظر إليه بعين الهيبة فرشح ذلك النور وقطرت منه مائة ألف وأربعة وعشرون ألف قطرة فخلق الله من كل قطرة روح نبي ورسول ، ثم تنفست أرواح الأنبياء فخلق الله من أنفاسها أرواح الأولياء والشهداء والصالحين .
" (1)

من هذه الرواية يتضح لنا كيف أن الروح مبدأ الحياة وأن الرسول صلى الله عليه وآله مبدأ الوجود لأنه الروح جزء من الرسول -ص-

وأريد أن أشير إلى أنه حينما نذكر مقاماً لرسول الله - ص - ، فإنه بنفس الإمام علي عليه السلام .. إي أن هذا علي هو نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصريح القرآن إلا انه ليس بنبي فقط . 

لذا فعلي عليه السلام هو أيضا سر الوجود ومبدأها

وتقرأ في حديث الكساء:" فقال الله عز وجل : يا ملائكتـي ويا سـكان سماواتي، إني ما خلقت سماء مبنية، ولا أرضا مدحية، ولا قمرا منيرا، ولا شمسا مضيئة ولا فلكا يـدور، ولا بحرا يجري، ولا فلكا يسـري إلا في محبة هؤلاء الخمسة، الذين هم تحـت الكساء، فقال الأمين جبرائيل : يا رب ومن تحت الكساء، فقال عز وجل : هم أهل بيت النبوة ومعـدن الرسالـة، هم فاطمة وأبوها، وبعلهـا وبنـوها " وهذا الحديث يشرك أيضاً أهل البيت عليهم السلام في أنهم أيضاً روحي فداهم مبدأ الوجود والحياة .

وأذكر هذه الرواية للتأكيد أيضاً بأن أهل البيت عليهم السلام أصل استمرار هذا الخلق وهي رواية عن أبي جعفر عليه السلام قال : قلت : لأي شئ يحتاج إلى النبي والامام ؟ فقال : لبقاء العالم على صلاحه ، وذلك أن الله عز وجل يرفع العذاب عن أهل الأرض إذا كان فيها نبي أو إمام ، قال الله عز وجل : " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم " وقال النبي صلى الله عليه وآله : " النجوم أمان لأهل السماء ، و أهل بيتي أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يكرهون وإذا ذهب أهل بيتي أتى أهل الأرض ما يكرهون " يعني بأهل بيته الأئمة الذين قرن الله عز وجل طاعتهم بطاعته فقال : " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " وهم المعصومون المطهرون الذين لا يذنبون ولا يعصون ، وهم المؤيدون الموفقون المسددون ، بهم يرزق الله عباده ، وبهم يعمر بلاده ، وبهم ينزل القطر من السماء ، وبهم تخرج بركات الأرض ، وبهم يمهل أهل المعاصي ولا يعجل عليهم بالعقوبة والعذاب ، لا يفارقهم روح القدس ولا يفارقونه ، ولا يفارقون القرآن ولا يفارقهم صلوات الله عليهم أجمعين (2)

وهذا شيء واضح ، لو كان الماء غير موجود ، هل سيكون هناك حياة  ؟ لو تلاحظون أن الإنسان حينما يكتشف كوكباً أول شيء يبحث عنه هو الماء ، لانه سر وجود مخلوق ، كذلك الهواء ، فمقتضى حكمة الله أن وجود هذا العالم تقتضي وجود الإمام .. ومن هنا يتضح فلسفة وضروة وجود الإمام .. كما يتبادر إلى ذهن البعض أنه ما فائدة وجود إمامنا وهو غائب عنا ؟. 

وعند ذلك يتضح أننا حينما نقول عن أهل البيت عليهم السلام هذه المقامات وخصوصا عندما يرتبط بعلمهم . إنما هي حقيقة لا غبار فيها ولا شك . 

وفي مقام أمير المؤمنين عليه السلام..
أمير المؤمنين عليهم السلام حينما تقرأ له في نهج البلاغة وهو يتكلم عن نفسه .. حينها تعرف  من أمير المؤمنين !  فلا تقل لي ماذا قال ( جورج جرداق ) و ( سليمان كتاني ) و ( عبد الفتاح مقصود ) ؟! بل أنظر إلى الأمير ماذا يقول عن نفسه ؟، هؤلاء الذين يتصورون انه فيه مقدار من الغلو ، فلينظروا إلى من غالى في نفسه أولا !!
يقول أمير المؤمنين عليه السلام : " سلوني قبل أن تفقدوني فوالله لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة إلا أخبرتكم به "

وذكر المجلسي رواية في مقام أمير المؤمنين عليه السلام : " قال رسول الله صلى الله عليه وآله . يا علي مثلك في أمتي مثل المسيح عيسى بن مريم افترق قومه ثلاث فرق : فرقه مؤمنون وهم الحواريون ، وفرقه عادوه وهم اليهود وفرقة غلوا فيه فخرجوا عن الايمان ، وإن أمتي ستفترق فيك ثلاث فرق : ففرقة شيعتك وهم المؤمنون وفرقة عدوك وهم الشاكون ، وفرقة تغلو فيك وهم الجاحدون وأنت في الجنة يا علي وشيعتك ومحب  شيعتك وعدوك والغالي في النار ".(3)

لذا وجب أن أقف على معنى الغلو وفيم يتحقق الغلو ؟ فهل هذا الذي قلناه هل هو غلو أم لا ؟
لذا يجب أن ترجع إلى الروايات لتعرف الحقيقه ..
فأذكر هذه الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام : " الغلاة شر خلق الله ، يصغرون عظمة الله ، ويدعون الربوبية لعباد الله "
إذن يتضح من هذه الرواية أن مادمنا لا ندعي بربوبيتهم ، فنحن بعيدون عن الغلو .. 
لذا يتضح قول الإمام الصادق عليه السلام : " إجعلوا لنا رباً نؤوب إليه وقولوا فينا ما شئتم " (4)

وهنا نقف .. لنستأنف البحث في تدوينة قادمة قد تكون الأخيره لهذه السلسلة .. واشكر لكل من تابع هذه السلسلة .
_____________
(1) بحار الأنوار للمجلسي ج15 ص21
(2) بحار الأنوار للمجلسي ج23 ص 19
(3) بحار الأنوار للمجلسي ج25 ص264
(4) كشف الغمة ج1 ص197

الأحد، 15 أغسطس 2010

الــروح (2)

 
نكمل ما شرعنا في بحثه ..
قلنا ..
أن الانسان يحتاج إلى مصباح أو ضياء .. لكي يميز الاشياء ويراها .. 
بعبارة قرآنية أخرى : لكي تفرق بين الحق والباطل لا تستطيع إلا بنور من الله كما اشارت الآية الكريمة : {وَمَن لَّمْ يَجْعَلً اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مًن نُّور } .

إذن النور للكشف عن حقائق الاشياء .. 
تارة قد تكون هذه الحقائق مادية وتارة أخرى تكون معنوية مثل : ( حق وباطل - طيب وخبيث - حسنه وسيئة ) وهذه تحتاج إلى نور إلهي .

هذا الموجود الذي عبر عنه الله تعالى باسم ( الرّوح )  عندما يعطي النور .. يعطي للجميع على حد سواء .. ولكن البعض يأخذ قليلا والبعض الآخر يأخذ الكثير كلٌ على حسب إنائه وقدرته على أخذ واستقبال هذا النور .
كما جاءت في سورة الرعد الآية الكريمة {  أنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } . فالماء النازل من السماء ماله حجم ، لكن الحجم يأتي من الإناء الذي تضعه ، فإذا كان إناؤك كبير وواسع .. بقدر هذا الإناء يكون حجم الماء . وفي قول الله تعالى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } . أي تتوزع الرحمة على الكل بالتساوي .. لكن تحدث المفارقه ، فواحد ياخذ من الرحمة 10 والآخر 100 ، وهذا لا يعتبر ضيقاً في الرحمة الإلهيه ، وكذا اشار { كلا نمده هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك ، وما كان عطاء ربك محضورا } والآية { ... عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} لكن نجد البعض لا يأخذ أي عطاء مع ان العطاء نازل من السماء كما ورد في الحديث لأن هؤلاء قلبوا إناءهم فصارت قلوبهم منكوسه ( المنكوسة قلوبهم ) .

إذن هذا الرّوح يعطي للجميع .. ولكن البعض يأخذ والبعض لا يأخذ .
وكلٌ بما أخذ يستطيع أن يضيء ما حوله .
فمثلا هذا يأخذ من النور 10 فيكشف ما حوله بمقدار هذا النور ، وذاك 100 فيكشف بدائرة أوسع ما حوله
والبعض بجهة مطلقة يأخذ النور ، فيكشف كل شيء . وذكرت ذلك الآية الكريمة { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } .

إذن حينما قال الله تعالى { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي } أي يسألونك عن الروح الذي هو : مبدأ الحياة في عالم الإمكان .
فالروح ليس مبدأ في عالمنا فقط ، بل حتى في عالم الملكوت - اي عالم الملائكة -

السؤال الذي نطرحه للبحث هنا ..

عرفنا أن الروح هو الذي يمد الحياة ويؤيد المؤمنين ، ويمد الأنبياء بالتسديد والتأييد .
فهل يؤيد أيضاً النبي الأكرم وأهل البيت أم لا ؟

والسؤال الثاني : فإذا كان يؤيدهم فماهي درجة التأييد هل هي مساوية لدرجة التي يعطيها لعيسى بن مريم أو أكثر من ذلك أو أقل ؟

هنا لننظر إلى القرآن الكريم والأحاديث الشريفة لنقف عليها:


"سألت أبأ عبد الله الصادق عن قول الله { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا } ما هذه الروح . قال : خلق من خلق الله تعالى عز وجل أعظم من جبرائيل وميكائيل كان مع رسول الله يخبره ويسدده وهو مع الأئمة من بعده ."(1)

" سألته عن قول الله عز وجل { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا } قال : مذ أنزل الله عز وجل ذلك الروح على محمد -ص- ما صعد إلى السماء وإنه لفينا "(2) 

لاحظ هنا يتبين أن الروح الذي أنزل على الخاتم لم ينزل قبله .. ورواية أوضح من ذلك أذكرها

" قال : سمعت أبا عبد الله يقول : {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي} . قال : خلق أعظم من جبرائيل وميكائيل لم يكن مع أحد ممن مضى غير محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو مع الأئمة يسددهم ،وليس كل ما طلب وجد ." (3)

هنا يتضح جيداً لنا ، أن الروح هو مبدأ الحياة لكل الوجود ، وهو الذي يفيض الحياة لكل المخلوقات .

وليكن في العلم: أن هذا الروح له درجات متعدده .
وأشار الأئمة أن الروح يؤيدهم منذ الولادة بدرجة .. وقبل أن نصل إلى مقام قبل الإمام فله درجة أعلى .. وحينما نصل إلى مقام الإمامة لنا الدرجة الأعلى والعلياوجاءت رواية من هذا المضمون " سمعنا أبي عبد الله يقول : يعرِف الإمام علم من كان قبله في آخر دقيقة تبقى من روحه " (4) .

نقف عند هذه الرواية التالية :
" رجل يأتي إلى الصادق عليه السلام . قال : سألته عن علم الإمام بما في أقطار الأرض وهو في بيته مرخى عليه ستره . فقال : يا مفضل إن الله تبارك وتعالي جعل في النبي خمسة أرواح . جعل فيه روح الحياة فبه دبَّ ودرج ، وجعل فيه روح القوة فبه نهض وجاهد ، وجعل فيه روح الشهوة فبه أكل وشرب وآتى النساء ، وجعل فيه روح الإيمان فبه آمن وعدل ، وروح القدس فبه حمل النبوة يا مفضل " (5) .

ونقف هنا لنستأنف هذا البحث إن شاء الله في تدوينة قادمة


____________________
(1):الكافي ج 1 ص 273
(2): نفس المصدر
(3): تفس المصدر
(4): الكافي ج 1 ص 275
(5) : الكافي ج1 ص 271