السبت، 4 سبتمبر 2010

الــروح (6)



ذكرت في الحلقة السابقة في آخر نقطة حينما ذكرنا آية في سورة الزخرف ، بأن للقرآن نحوين من الوجود .
الوجود الأول الذي عبر عنه القرآن (  إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) .
والوجود الثاني الذي عبر عنه القرآن ( وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) . لكن نجد أن هذه الآية وصفت هذا النحو الثاني من الوجود بعدة تعبيرات ، وهذا من خصائص القرآن الكريم ، أولا وصفته بـ(لَدَيْنَا) وهذا أمر مهم يجب الوقوف عليه ، ثم وصفت الآية مرتبة القرآن بالـ(العلو) و (الحكمة).

في الواقع ، القرآن الكريم أشار إلى تلك الحقيقة بأمر واضح ، في سورة الواقعه (  إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ،فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ، لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) . لو تلاحظون أن في الآية الاولى وصف بـ (أُمِّ الْكِتَابِ) وفي سورة الواقعه بـ (كِتَابٍ مَكْنُونٍ) .، ونحاول أن نقف على تلك الحقيقه ..،

الأمر الثاني المستفاد من هاتين الآيتين ، أن القرآن لكي تُعقل كما أشار (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ،والمراد من العقل يعني الإدراك والفهم .، لا بد أن يكون بنحو علم الحصولي ، لأن العلم كما تعرفون من كتب ( المنطق ) وفي الأبحاث الفلسفيه وفي نظرية ( المعرفة ) ، أن العلم إما أن يكون حضورياً - وهو إدراك وجود الشيء - ، وإما أن يكون حصولياً - وهو إدراك مفهوم الشيء أو صورة الشيء في الذهن - .
لكي يدرك القرآن إدراكاً حصولياً ، لا طريق لنا إلا أن يكسو وأن يلبس لباس الألفاظ . وبعبارة واضحه : القرآن الكريم لولم يلبس لباس العربي المبين ، لما أمكن إدراكه ولما أمكن فهمه ،
لذا لا يوجد هناك طريق عقلي - الطريق الذي يقوم على اساس الفهم والإدراك والمفاهيم والعلم الحصولي - للقرآن إذا كان في مرتبته الوجودية الأولى التي ذكرتها سورة الزخرف (أُمِّ الْكِتَابِقبل نزوله إلى عالم الدنيا التي ذكرتها بـ(بلسان عربي مبين)
ويمكن أن نستفيد أن أصل القرآن بحسب مرتبته في (أُمِّ الْكِتَابِ)هوحقيقة القرآن وأصله ، أما وجوده عندنا الذي هو (بلسان عربي مبين) هو فرع من ذلك الأصل الذي نزل إلينا كما في قوله (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) - (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ) - ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) .

بعبارة مختصره أخرى : أن هذا القرآن ، كان في مرتبة ( أم الكتاب ) ومرتبة ( الكتاب المكنون ) والله أنزله من ذلك الموضع إلى موضع ( بلسان عربي مبين ) ، والدليل نفس الآية ( وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ  )

وأتضح أن الوجود الأول هو الأصل وهو العالي ، والوجود الثاني هو الفرع وهو الداني والذي نستطيع أن نتعامل معه ونفهمه .
ووردت في أحاديث متعدده  وأدعيه كثيره هذه العبارة : " أن الله عالٍ في دنوه ، ودانٍ في علوه " ، فماذا تعني ؟
مع أن الله سبحانه وتعالى عال لا تدركه الأبصار وليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، مع ذلك فهو أقرب إلينا من حبل الوريد ويحول بين المرء وقلبه ، إذا قلنا أن الله عالٍ قد يتبادر إلى الذهن أنه ليس بدانٍ ، كلا ، فمع انه دانٍ هو عال ، ومع أنه عالٍ هو دان ، وهذه ليست جديده في معارف التوحيد ، تسمع ذلك في خطبة أمير الموحدين علي بن أبي طالب عليه السلام : كل أول سواه ليس بآخر ، وكل آخر سواه ليس بأول ، وكل ظاهر سواه ليس بباطن ، وكل باطن سواه ليس بظاهر إلا هو ، فهو الأول والآخر والظاهر والباطن فهو الجامع بين الأضداد فهو العالي في دنوه ، والداني في علوه .

ونبقى أن نعرف ما هي العلاقة بين الأصل والفرع ، وسنقف إذا وفقنا الله لها في الحلقة القادمة ..،