في رحلتي الولائية الأخيرة لزيارة مشهد الإمام الرضا -عليه السلام- بضع مشاهد خالدة أحببت أن أسطرها لكم بعد فراق وجفاء لمدونتي (وقفات) ارجو ان تكون البداية لانطلاقة جديدة للتدوين .
فالتدوين هذه الأيام أصبح لا وقت له لظهور مختلف وسائل الاتصال الاجتماعي الحديثة والتي أصبح لها جمهور كبير ومتابعه لحظية بخلاف المدونات التي بدأت تندرس وتندثر .إلا أن التدوين في مدونة له رونق خاص وريحة عجيبة .
قبل أن أبدأ بحكاية وقفاتي .. اسميت الموضوع بـ ( سفير العشق ) وللتسمية سر ، فالمولى الرضا - عليه السلام - يأسر الأرواح في رحلة لا تجد فيها سوى ( الحب ) ومنه ستشق طريقك إلى كربلاء ، حيث معراج ( الحب )
قبل موعد الرحلة كان يومي حافلاً بمزاحمة العلماء ، ففي الجلوس معهم تستنشق روائحاً عبقة واشارات بنّاءة نحتاجها لإكمال مسيرتنا الاجتماعية والدينية على حدّ سواء ، ففي هذه الليلة تشرّبت قوة عجيبة ودفعة فريدة من نوعها نحو تحقيق مشروع جديد سيغير الكثير من ممارستي العلمية في الكويت ، - وقد تحقق أغلبه ولله الحمد -
الغريب أن الأحوال تتغير بين الفينة والأخرى ، فها أنا أتحير في المطار أفكر في الضمانات والعهود التي قطعتها في الكثير من أعمالي ، وطول السفر وتوقف السعي وراء المشروع ، والقلب لا يحتمل وداع الأحبة.
في سكتة غريبة ألمت بي وشرود ذهني قطعتها نسمة هواء عليلة وسط حرارة الجو المعتادة في الصيف وكأنها ليست من هواء هذه المنطقة أخذتني إلى حيث جوار مولاي الرضا ، فاشتدّت عزيمتي وقويت على مفارقة الأحبة ونسيان أمرهم ، توجهتُ إليه فسبقتني روحي للنظر إلى مناراته ولثم ضريحه .
{ فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ }
فوقفت متسمراً منشداً متمثلاً بأبيات البهائي بعد أن بان المشهد الأقدس الرضوي :
هذه قبَّةُ مولاي بَدَت كالقَبسِ .. فاخلعِ النَّعل فقد جُزتَ بوادي القُدسِ
حينها سمِعتْ روحي صوتي وأيقنتْ وصول جسدي سالماً محملاً بالعبق الرضوي الفواح فسكنت فيه فاسترحت وخلدّت إلى النوم في حينها.
[ دعاء كميل ] :-
كل من آنس في وادي مشهد الرضا ذاق حلاوة المناجاة تحت سمائها ، وعرف معاني التوبة خصوصاً في ليالي الجمعة حيث تستمع إلى أجمل مقطوعه من زبور مولانا علي بن أبي طالب عليه السلام من الراوي الثقه كميل بن زياد رضوان الله عليه ، هذا الجو المفعم بالروحانية ينتاب الجميع في أوّل كلمة من الدعاء ( اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء ) فـلطافة الجو والنسيم العليل ومنظر مناراته وقبته الواسعه تفتح لك آفاق هذه الكلمة إذ أن رحمة الله وسعتك حتى أتتك إلى هذا الوادي المقدّس .
دعاء كميل عبارة عن سيرة حياتنا الذاتية بكل تفاصيلها ، نقرأها ونعترف بتقصيرنا وذنوبنا ، حتى يشملنا العفو الإلهي ببركة حضرة مولانا الرضا عليه السلام . وبعد الانتهاء من الدعاء لا أظن أن عبداً صادقاً في توجهه يأتيه شك في أن ذنوبه محيت ولو كانت مثل زبد البحر .
[ أنيس النفوس يؤنس الصغار ] :-
أنيس النفوس لقبُ لم يطلق على مولانا الرضا عليه السلام اعتباطاً - حاشا لله - ، مصداقها لا يمكن أن يعبّر عنها بحروف أي كاتب ، خير مصداق التجربة ، لكني أنقل لكم ما رأته عيني علّها تعطي صورةً مصغرة عن الأنس .
طبيعة الإنسان يتملل حين لا عمل له إذا مر وقتاً طويلاً على ركوده وجلوسه ، إلا أن هذه الطبيعة تختلف في صحن الإمام الرضا عليه السلام ، بل إن النظام الطبيعي كله يتغير ، فلن تجد معنى الكلل والملل في الجلوس والنظر إلى القبّة فقط ، هذا ما يشعر به كل الزوار ، إلا أنك ترى ذلك واضحاً جلياً في وجوه الصغار ، فتمايلهم وركضهم في الباحة وضحكهم العالي ومشاكستهم عند ( النافورة ) والبِركة .. كلها تدلّك على روح خفية استحوذت على نفوسهم فآنستهم .. نعم ! رأيت بعيني آباً يحمل طفلته الصغيره ذات الـ٦ أشهر على يديه ومن خلفه يتعلق أبنيه بذيل ثيابه وهو يركض بخفّة وهو يردد أناشيد يتخللها ضحك الصغار. ما أجمله من منظر وأنت ترى شعر أطفاله يتطاير من نسائم جنّة الرضا عليه السلام .
حقاً يا سيدي إنك تفرج عن المهموم همّه وعن المكروب كربه ، وتفرح الصغير قبل الكبير .
وإن سقطت عيناك على طفل يبكي فاعلم علم اليقين أن والداه منعوه من أن يأنس فيلجأ للبكاء .
[ الشيخ البهائي رض ] :-
كانت زياراتي للمولى الرضا عليه السلام تمرّ من رواق الإمام الخميني رضوان الله عليه ، فأمر من بعده على رواق الشيخ البهائي فأسلم عليه واقرأ الفاتحة عند قبره ، فلا أنسَ دعوته لي بالعشق لسيدي ومولاي الحجة عجل الله فرجه في رباعيته المشهورة التي منها :
يا أخلائي بحزوى والعقيق .. ما يطيق الهجر قلبي ما يطيق
هل لمشتاقِ إليكم من طريق .. أم سددتم عنه أبواب الوصال؟
أغرقني بالعشق .. وألهمني الهيام فرضوان الله عليه هذا العالم الجليل جمع العلوم النقليه والعقليه ، فبرع فيها كلها .. ولم يكتفِ بذلك وما زالت تلك القصة والقضية حاضرة في بالي كلما دخلت على الإمام الرضا من الباب المكتوب على أقواسه ( أدخلوها بسلامِ آمنين ) ، تلك القضية حينما همّ بإعمار الحرم الرضوي المبارك ، وانتهى من البوابة وقال لخادمه : إني في سفرِ لمدة ثلاث أيام فلا تعلّق الآية حتى آتِ .
فما مضت الليلة الأولى حتى شاهد الخادم الإمام الرضا في منامه يأمره بتعليق الآية ، فجلس متردداً حتى نام وفي الليلة الثانية يرى نفس الرؤية ،وهو على حاله من التردد ، حتى رآى المولى الرضا في الثالثه وهو يأمره بشدّه ويوبخه على تأخره . فجلس وعزم على تعليقها ،فلما قدم الشيخ البهائي وجدها معلقه فزجر خادمه حتى بيّن الخادم الرؤى الثلاث ، فسقط باكياً فتعجب الخادم مما يرى من تغير حالة الشيخ فاستفسر عن ذلك ، فأجاب الشيخ : إني كنت في عزلة اعتكف كي أضع طلسماً جديداً يمنع أصحاب الذنوب الكبيرة من الدخول على الإمام الرضا عليه السلام !
كم أنت رؤوف ياسيدي .
[ أشياء عجيبة ] :-
لكلَّ منّا علامات يتعجب منها ، فتعجبي يزداد يوماً عن يوم حينما أرى في كل مرة في الحرم شبيهاً بأحد معارفي ناسياً له فاتذكره وأدعو له ، هذه الحالة لا اتفرد فيها ، في كل الزيارات للأئمة صلوات الله عليه نرى ذلك .. فحدّث عن ذلك ولا حرج .
وأرأيت شيخاً بعمامته البيضاء داخل الحضرة واضعاً خدّه على التربة يتضرّع في صلاة الاستغاثه وهو يقول : يافاطمة أغيثيني . فأثار هذا المنظر وجداني ووقع في قلبي ما وقع .
كان أحد الأصدقاء يوصيني أن أطلب من الإمام الرضا عليه السلام التوفيق لزيارة الإمام الحسين عليه السلام فهو سفير العشق .
وهئنذا أتهيأ للسفر إلى كربلاء حيث معراج دم القربان .. ببركة الدعاء عند الرضا عليه السلام .
اللهم تمم عليّ ما هممت إليه وبارك في زيارتي .. ولا تحرمنا من زيارتهم في عامنا هذا وفي كل عام آمين يا رب العالمين